كنت أتأمل في مويجات الماء الناعمة، في هذا الغروب الشفيف، وتذكرت مرة أخرى ذلك العالم البعيد الذي عشته مع ماري قبل أن يخلق الأولاد. تذكرت نصفي البرازيلي. عشت رحلتنا ثانية بعد سنين من حدوثها. تماهيت مع الرحلة ونسيت بحيرة دامهوس التي أحدق بمياهها الزرقاء. أمر لفت بصري، ورأيته موجودا في أغلب الأمكنة. انهم الأطفال. الأطفال الذين ولدوا في الشوارع، ولايملكون أبا أو أما. يسرقون، يشتغلون في اللواطة وتجارة المخدرات، يمتهنون أحط المهن، ويموتون وحيدين. كانت هذه حالة أطفال البرازيل الذين شاهدتهم. هؤلاء يخشاهم السواح الأوربيون أشد ما تكون الخشية، اذ أن انقظاظهم على الانسان أمر طبيعي، وهم يحملون السكاكين عادة. أطفال يكونون أحيانا في الثامنة أو العاشرة من عمرهم ويتحولون إلى قتلة. قالت لي ماري وقتها: الأطفال المشردون هنا مشكلة. لكن أنظر كيف فكرت الدولة بحلها. وجهت عليهم حملت واسعة من أفراد الشرطة الشرسين تغتالهم ليلا، ليجمعوا مثل الكلاب الضالة، ويوضعوا في شباك عملاقة تحملها الحوامات ثم تلقي بجثثهم في البحر. كل ذلك حصل أمام مرأى علماء الصواريخ الذين ينطلقون إلى المجرات، وأمام عيون السيدات المشغولات بموضات باريس، وأمام أعين الأساتذة الأنيقين الذي يدرّسون مادة التاريخ الخاصة بالشعوب المتخلفة.
جرى كل ذلك تحت ذراعي تمثال يسوع الواقف فوق الجبل، وهو يتملى في ربوع هذه البلاد المعطرة بالقهوة والشوكولا وفوح خمرة البنكة المصنوعة من قصب السكر، وقد عطرت باليانسون.
أحيانا، وبعد هذا العمر الطويل أطول من نهر المسيسبي، تختلط علي الأمكنة والمدن والروائح وإطلالات الشوارع، ويمارس عقلي الفائر حالات من التنكر، ويقوم بوضع أقنعة من الماضي أحدها فوق الآخر، فلا أعود أميز بين الأزمنة، أو الأمكنة، مثلما أشعر اللحظة وأنا أجلس على ضفة بحيرة دامهوسن، في وسط فالبي، إذ أن خيالي يحلق هناك، في مدينة بعيدة تقع وراء المحيط.
كأنني أتجول فيها بذهن مشدود إلى ماكنة الزمن. ألا تتكون البلدان من جسور وبحيرات وغابات وشوارع وأبنية وغبار؟ ألا تشترك بتغير الفصول وتغير حرارة الشمس من شهر إلى آخر؟ ثم هل من الغلط القول أن الكرة الأرضية تصبح متشابهة سنة بعد أخرى؟ وقد ينسحب هذا على البشر أيضا وأحلامهم وهواجسهم وكذبهم ومغامراتهم وتوقهم إلى المجهول. هناك لا هنا رأيت جسورا تربط قمم الجبال بعضها إلى بعض، وأنفاقا تغوص في متاهات من البلور والجمشت والزمرد والعقيق. وليس بعيدا عن ذلك ببغاء تطلق أصواتا جارحة من على شجرة منكا. رأيت بشرا رؤوسهم صهباء ومؤخراتهم ضيقة وأنوفهم ذات سمات زنجية وعيونهم عيون يابانية.
غابات على شكل باقات ورود وأحلام جرت أحداثها قبل مئات السنين. حبيبات تلاشين من الذاكرة غير أنهن ينبعثن في الرأس مثل النبع.
قالت زوجتي: الجوع في كل مكان هناك، وثمة طبقة صغيرة مرفهة تعيش عيشة الأباطرة. البرازيل أغنى بلد في العالم، لكن الجوع يطال حتى القطط أحيانا. في البيت تمرح في الفناء الخلفي أكثر من عشرين قطة، تذهب الخادمة إلى الجزار يوميا لتجلب لها وجبة مكونة من قلوب ورئات وأكباد، تقطعها قطعا صغيرة، تلتهمها القطط بلمح البصر. كان ذلك الطقس يجري يوميا في الفناء الذي تعيش فيه أيضا سلحفاة عجوز وكلبان مدللان وغزالة مجلوبة من السهب. ذات يوم غابت الخادمة وجاعت القطط، وفي أقل من دقيقة هجمت علينا بغتة وراحت تعلك غطاء المائدة البلاستيكي، وراودني إحساس أن تلك القطط يمكن لها التهامي بأقل من ساعة، إذا لم تطعم قبل حلول المساء. وكان البيت، بيت ماري، مصنعا للحكي ورواية القصص عن غائبين منذ خمسين سنة، وبحارة عادوا من المحيطات البعيدة، ومناضلين غيبتهم زنزانات العسكر، ونساء أغتصبن في الغابات، ورهبان اعتنقوا الماركسية وخلقوا حركة لاهوت التحرير بعد ان رأوا كل ذلك البؤس. فعلا لا يوجد شعب مثل هذا يعشق رواية القصص. شعب لا يتوقف عن الكلام والرقص، وكانت زوجتي مطحنة كلام في الباصات التي تنقّلنا فيها، وعلى ساحل المحيط ، وفي الكنائس التي زرناها. تثرثر مع الرجال داخل الباص، وتسأل امرأة عن عنوان ما، تطلي شفتيها بالأحمر، وترتدي فستان سهرة فاقع الورود.
تقرأ كتابا في الحديقة وتسمع صخب الموسيقى المجلجة عبر الشارع. وكانت الكنيسة التي تاقت زوجتي لرؤيتها، كي تتذكر صباها وقصص حبها القديمة، قد بنيت من قبل المهاجرين البرتغاليين الأوائل، يتجسد فيها ذلك البذخ الكاثوليكي، والأبهة الدينية. تقع على تلة تشرف على مدينة كابريوفا، مدينة ماري.
الكنيسة مركز جذب للجميع، للعباد والخطاة، للصبيان والبنات، للسلطة والمعارضة، تدور فيها وحولها قصص تشبه الخيال. لفت نظري رجل مقعد يزحف صاعدا التلة نحو باحة الكنيسة، كان يكرج على الأرض ويبذل جهدا شاقا. تخيلته شخصا مليئا بالإيمان وإلا ما أقدم على كل تلك المشقة كي يصل الكنيسة. الرجل يزحف إلى الأعلى والنساء يدخلن الكنيسة مثل فراشات ملونة. زنوج وخلاسيون وأوربيون ويابانيون، وحين وصل الرجل باب الكنيسة قبّل الخشب ورسم علامة الصليب، ودوّى تصفيق من الجميع. صار مركز الحضور. سألت زوجتي عن الأمر، فقالت إنه ليس مقعدا، بل يؤدي نذرا فقط. قدم من قرية بعيدة زحفا كي يصلي هنا. عجبت لهذه الروح الإيمانية. شعب متدين عموما لكنه منفتح على الحياة. يرقص، يحتسي الخمور، يمارس الجنس بحرية، لكنه لا ينسى الكنيسة، ملاذ الخطاة والمضطهدين والفقراء. من هنا أيضا انحازت قطاعات واسعة من الرهبان إلى صفوف الفقراء وشكلوا احراجا للكنيسة الرسمية، إذ أصبح قسم منهم ثوارا ومناضلين، أيام الحكم العسكري.
مدينة زوجتي ماري المسماة كابريوفا كانت ذات فراش ملون، أصفر وأبيض وأسود ومرقش. فراش بأحجام مختلفة، أكبرها الليلي الداكن اللون. الأرض متموجة والتلال مغطاة بالعنب وقصب السكر. من قصب السكر ينتجون شراب البنكة، الذي يستمتع في شربه الزنوج والهنود. الأشجار دائمة الخضرة، والبشر يحبون الأطعمة. مدينة كابريوفا تلتم على تلك الكنيسة التي بناها البرتغاليون، أجداد ماري، سكانها مولدون وأفارقة ويابانيون وشقر من أصول جرمانية. الاكتظاظ في كل شبر من الأرض، والأبيض كل من هو غير زنجي.
كابريوفا مدينة ماري: عنكبوت سامة كادت تلتهمها كلاب البيت. الكلاب تنبح بأسى، الهدوء قلق لكنه كثيف. وقع قطرات المطر على ورق الأشجار كأنه خطى تدب في الظلام. وقع المطر مرعب، كما لو أن ثمة مخلوقا غامضا يتجول بين الشجر المعتم. الغصن ينحني حتى يلامس الأرض، إنه يحمل أكبر وردة في البستان. وفي الكارنفال آمنت أن كل ما هو غريب يمكن أن يتواجد في هذه الأرض المصنوعة من روايات وأقنعة وزنوج وغابات وورود مدارية وأمطار.
وفي ليلة صيفية ماتعة، وسط ملعب المدينة العملاق، ارتدت الألعاب والرقصات والناس شكل أسطورة تحيل الواقع إلى سحر وأقنعة. كانت الفرق تعبر على سيارات غريبة الهيئات. والراقصون عليها لهم سمات غير أرضية. تحولات الكائن البشري وهو يخوض في الخيال. فرق من السرتاو، تمثل رعي البقر، يمتطي الرعاة أفراسا من الخشب ملتمعة بالأضواء. الباربكيو يرتفع دخانه في الهواء الطلق. فرق من باهيا، صيادوها متعتعون من السكر والجوع . فرق من ريو دي جانيرو، مع عرض لأزياء قام به الخلاسيون المدهونو الجسد بزيت اللوز. ريش ونبال ودخان ينطلق عاليا كي يعانق الصواريخ الضوئية التي ترش ساوباولو بألوان قوس قزح.
قالت زوجتي: لا تحمل الكاميرا معك فربما يسرقها اللصوص. ضع نقودك في جيوب داخلية. انتبه إلى ساعة يدك الثمينة. هذا التحذير يسمعه الغريب في كل مكان. الفقراء ينظرون بعين الريبة إلى الأغنياء. والغني هو كل من يمتلك سقفا وعملا يوفر له لقمة العيش. البيوت تغطى نوافذها عادة بأعمدة غليظة من الحديد كي لا يتسلل اللصوص اليها. الجياع في كل مكان، والأغنياء يسفحون النقود على متعهم، محولين بيوتهم إلى جنّات محروسة بأشخاص أشداء. ثراء خرافي يراه المرء في تلك البيوت، لكنه مهدد بالسرقة أو الثورة ليل نهار. الفقراء لا يشتركون مع الأغنياء إلا بسحر الطقس وجمال الطبيعة.
حدث لي ذلك مع ماري قبل أن تأتي نجمة إلى الوجود.
نجمة التي أتطلع إلى رؤيتها، هي وجميلة، بعد كل هذه السنوات بشوق، كما أتطلع إلى رؤية بيتنا السابق، الحديقة، وموقد الشوي، وهل مازالت هناك نباتات فراولة تحمل ثمارها الحمراء؟
[مقطع من رواية " أنا ونامق سبنسر" التي صدرت في شهر حزيران عن دار الجمل . ينشر بالاتفاق مع المؤلف]